كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإنما قال: {ببعض ما كسبوا} لأن الكسب قد يكون خيرًا كقوله: {لها ما كسبت} [البقرة: 134، 141، 286] أو لأن جميع الذنوب لا يؤاخذ بها الله تعالى كقوله: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} [الشورى: 30] وقال الحسن: استزلهم بقبول ما زين لهم من الهزيمة. ويحتمل أن تكون الباء بمعنى في أي السبب في توليهم أنهم كانوا أطاعوا الشيطان في بعض الأعمال. إما قبل هذه الغزوة وإما فيها كالفشل والتنازع والتحول عن المركز وطلب الغنيمة، فاقترفوا ذنوبًا فلذلك منعتهم التأييذ وتقوية القلوب حتى تولوا. وعلى هذا التقدير لا يكون الفعل المسند إلى استزلال الشيطان فيه هو التولي، وإنما يكون أعمالًا أخر إما في هذه الغزوة أو قبلها.
{ولقد عفا الله عنهم} فيه بيان أنهم ما كفروا وما تركوا دينهم لأن العفو عن الكفر لا يجوز. بقي البحث في أنه أي ذنب هو؟ والظاهر أنه التولي لأن التوبيخ وقع عليه والآية سيقت لأجله. ثم أنه من الصغائر أو من الكبائر؟ قالت المعتزلة: كلاهما محتمل. لكنه إن كان من الصغائر فلا حاجة إلى إضمار التوبة، وإن كان من الكبائر فلابد من إضمار توبتهم وإن كانت غير مذكورة في الآية. قال القاضي: الأقرب أنه من الصغائر لأنه لا يكاد يقال في الكبائر إنها زلة، ولأنهم ظنوا أن الهزيمة لما وقعت على المشركين لم يبق في ثباتهم حاجة، فلا جرم تحولوا لطلب الغنيمة، والخطأ في الاجتهاد ليس من الكبائر. قالت الأشاعرة: أنه من الكبائر لأنهم خالفوا النص. وحيث عفا عنه من غير ذكر التوبة- والأصل عدم الإضمار- غلب على الظن أن العفو عن الكبائر واقع من غير شرط.
ثم ندب إلى المؤمنين ما يزيد رغبتهم في الجهاد فقال: {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا} قيل: أنه عام. وقيل: يعني المنافقين. وقيل: منافقي يوم أحد كعبد الله بن أبيّ وأصحابه. وفيه دليل على أن الإيمان ليس عبارة عن مجرد الإقرار باللسان كما يقوله الكرامية وإلا لم يسم المنافق كافرًا {وقالوا لإخوانهم} أي لأجل إخوانهم مثل {وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرًا ما سبقونا إليه} [الأحقاف: 11] وذلك أنهم قالوا: {لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا} والميت والمقتول لا يكلم. وعلى تقدير فرض التكلم كان المناسب أن لو قيل: لو كنتم عندنا ما متم وما قتلتم. ومعنى الأخوة اشتراك النسب. فلعل المقتولين كانوا أقارب المنافقين وإن كانوا مسلمين. أو اتفاق الجنس فلعل بعض المنافقين صار مقتولًا في بعض الغزوات. والضرب في الأرض الإبعاد فيها للتجارة وغيرها. والغزو قصد محاربة العدو قريبًا كان أو بعيدًا. والفاعل غاز والجمع غُزَّىً مثل: سابق وسبق، وراكع وركع، وإنما قال: {إذا ضربوا} دون إذ ضربوا أو حين ضربوا ليشاكل في المعنى قوله: {وقالوا} لأنه أراد حكاية الحال الماضية.
والمعنى أن إخوانهم إذا ضربوا في الأرض. فالكافرون يقولون: لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا. فمن أخبر عنهم بعد ذلك لابد أن يقول: قالوا ويجوز أن يكون {قالوا} في تقدير يقولون لكنه وقع التعبير عنه بلفظ الماضي لأنه لازم الحصول في المستقبل مثل {أتى أمر الله} [النحل: 1] وفيه دلالة على أن جدهم واجتهادهم في تقرير هذه الشبهة قد بلغ الغاية، فكأن هذا المستقبل كالكائن الواقع. ويمكن أن يقال: عبر عن المستقبل بلفظ الماضي ليعلم أن المقصود الأخبار عن جدّهم واجتهادهم في تقرير هذه الشبهة. وقال قطرب: كلمة إذ وإذا يجوز إقامة كل منهما مقام الأخرى، وهذا وإن لم يوجد له في كلام العرب نظير، لكن القرآن أولى ما يستشهد به وهو حجة على غيره وليس غير حجة عليه، قال الواحدي: في الكلام محذوف والتقدير: إذا ضربوا في الأرض فماتوا أو كانوا غزى فقتلوا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا. وأما اللام في قوله: {ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم} ففي متعلقه وجهان: الأول أنه {قالوا} أي قالوا ذلك الكلام واعتقدوه ليجعل الله ذلك الكلام حسرة فتكون لام العاقبة كقوله تعالى: {فلتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًا وحزنًا} [القصص: 8] وكيف استعقب ذلك القول حصول الحسرة؟ فيه وجوه: فقيل: لأن أقارب ذلك المقتول إذا سمعوا هذا الكلام تخيلوا أنهم لو بالغوا في منعه عن ذلك السفر أو الغزو لم يمت أو لم يقتل فازدادت حسرتهم وتلهفهم بسبب أنهم قصروا في منعه، بخلاف المسلم المعتقد في أن الحياة والموت لا يكونان إلا بتقدير الله فإنه لا يحصل له شيء من هذا النوع من الأسف. وقيل: لأنهم إذا ألقوا هذه الشبهة إلى إخوانهم تثبطوا عن الجهاد، فإذا نال المسلمون في الجهاد غنيمة بقي أولئك المتخلفون في الخيبة والندامة. وقيل: المراد حسرتهم يوم القيامة إذا رأوا ثواب المجاهدين. وقيل: المقصود خيبتهم عن ترويج شبهتهم بعد ما أعلم الله المؤمنين بطلانها. وقيل: الغرض أن جدهم واجتهادهم في تكثير الشبهات يقسي قلوبهم ويضيق صدورهم فيقعون لذلك في الحيرة والحسرة. الوجه الثاني: أن متعلق اللام قوله: {لا تكونوا} وذلك إشارة إلى ما دل عليه النهي أي لا تكونوا مثلهم ليجعل الله ذلك الانتفاء انتفاء كونكم مثلهم حسرة، لأن مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون مما يغمهم ويغيظهم {والله يحيي ويميت} رد لجهالتهم وجواب عن مقالتهم أي الأمر بيده والخلق له. فقد يحيي المسافر والغازي، ويميت المقيم والقاعد. فعلى المكلف أن يتلقى أوامره بالامتثال، فالله أعلم بحقيقة الأحوال ولا يجري الأمور إلا على وفق إمضائه وأحكامه ونقضه وإبرامه وكل ميسر لما خلق له.
عن خالد بن الوليد أنه قال عند موته: ما فيّ موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة وها أناذا أموت كما يموت الغير فلا نامت أعين الجبناء. وفي أمثالهم الشجاع موقى والجبان ملقى.
وكان عليّ يقول: إن لم تقتلوا تموتوا والذين نفسي بيده لألف ضربة بالسيف أهون من موت على فراش، ويجوز أن يكون المراد: والله يحيي قلوب أوليائه بنور اليقين والعرفان، ويميت قلوب أعدائه بظلمة الشك والخذلان {والله بما تعملون بصير} فلا تكونوا مثلهم. ومن قرأ على الغيبة فالضمير للذين كفروا ويكون وعيدًا لهم. ثم أنه لما كذب الكافرين في قولهم: {لإخوانهم لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا} ونهى المؤمنين عن كونهم مثلهم لأنه يسبب التقاعد عن الجهاد وينفر الطبع عنه رغبهم فيه بقوله: {ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة} شيء من مغفرته ورحمته {خير مما يجمعون} فاللام الأولى هي الموطئة، والثانية لام جواب القسم المقدر، وكذا في الآية الأخرى. والمعنى أن القتل والموت في السفر غير لازم الحصول لأن ذلك منوط بالقدر لا بالسفر. ولئن سلم أنه لازم فإنه يستعقب المغفرة ويستجلب الرحمة من الله. وإن ذلك خير مما تجمعون من الدنيا وما فيها لو لم تموتوا.
وعن ابن عباس: خير من طلاع الأرض ذهبة حمراء. ومن قرأ بالياء فالضمير للكفار لأن الذي يجمعونه في الدنيا قد يكون من باب الحلال الذي يعد خيرًا، أو ورد على حسب معتقدهم أن أموالهم خيرات لهم. وإنما كانت المغفرة والرحمة خيرًا من المال لأن المال الذي يجمع لأجل الغد قد يموت صاحبه قبل الغد، وإن لم يمت فلعل المال لا يبقى في الغد، فكم من أمير أصبح أسيرًا. وعلى تقدير بقاء المال وبقاء صاحبه إلى الغد فلعل مانعًا من مرض أو خوف يمنعه عن الانتفاع به، وبتقدير عدم المانع فلذات الدنيا مشوبة بالآلام ومنافعها مخلوطة بالمضار، وبتقدير صفائها عن الشوائب فلابد لها من الزوال والانقطاع، ومنافع الآخرة أصفة وأضفى وأبقى وأنقى ولاسيما منافعها العقلية، وأي نسبة لانتفاع الحمار بلذة قبقبه؟ فذبذبه إلى ابتهاج الملائكة المقربين بشروق أنوار العزة عليهم، ثم رغبهم بنوع آخر فقال: {ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون} كأنه قيل: إن تركتم الجهاد وتم لكم الاحتراز عن الموت أو القتل بقيتم أيامًا قلائل في الدنيا مع اللذات الخسيسة الحسية والخيالية فتركتموها لا محالة فتكون لذاتها لغيركم وتبعاتها عليكم، ولو أعرضتم عن اللذات الفانية وبذلتم النفس والمال في دين الله وصلتم إلى أعلى الدرجات وهي مقام العندية. وإنما قدم القتل على الموت في الآية الأولى وعكس في الثانية ليقع الابتداء والختم على ما هو أفضل، أو لأن الآية الأولى سيقت لبيان فضل الجهاد والقتل في سبيله، فقدم ما هو الأغلب من حال المجاهدين الذين يفارقون الدنيا وهو القتل، الثانية سيقت لبيان أن حشر الخلائق كلهم إليه بأي وجه يفارقون الدنيا.
ولا شك أن الغالب على أحوال الخلق كلهم الموت، ولهذا السر أطلق القتل إطلاقًا ليعم أنواع القتل كلها. وفي قوله: {لإلى الله تحشرون} لطائف منها: تقديم الجار على الفعل لإفادة الحصر، وأنهم لا يحشرون إلى غيره، وأنه لا حكم لأحد في ذلك اليوم إلا له، ومنها تخصيص اسم الله بالذكر ليدل على كمال اللطف والقهر، فهو لدلالته على كمال اللطف أعظم أنواع الوعد، ولدلالته على كمال القهر أشد أنواع الوعيد. ومنها إدخال لام التوكيد القسمي في الحرف المتصل باسم الله تنبيهًا على أن الإلهية تقتضي هذا الحشر لحكمة المجازاة. ومنها بناء {تحشرون} على المفعول تعويلاَ على ما هو مركوز في العقول من أنه هو الذي يبدئ ويعيد، لا قدرة على الإعادة لأحد غيره. ومنها أنه أضاف حشرة إلى غيرهم ليعلم أنهم أحياء كانوا أو أمواتًا لا يخرجون عن قبضته. ومنها أنه خاطب الكل ليعلم أن القاتل والمقتول والظالم والمظلوم والقاعد والمجاهد كلهم في بساط العدل وفضاء القضاء موقوفون. واعلم أنه تعالى ذكر في الآيتين المغفرة والرحمة والحشر إليه. فالأول إشارة إلى من يعبده خوفًا من عقابه، والثاني إشارة إلى من يعبد طمعًا في ثوابه والثالث إشارة إلى من يعبده لأنه يستحق العبادة. فهم أهل الحشر إلى الله لا إلى ثوابه ولا إلى إزالة عقابه، وما أحسن هذا النسق! يروى أن عيسى عليه السلام مر بأقوام نحفت أبدانهم واصفرت وجوههم، ورأى عليهم سيما الطاعة فقال: ماذا تطلبون؟ فقالوا: نخشى عذاب الله. فقال: هو أكرم من أن لا يخلصكم من عذابه. ثم مر بآخرين فرأى عليهم تلك الآثار فسألهم فقالوا: نطلب الجنة والرحمة. فقال: هو أكرم من أن يمنعكم رحمته. ثم مر بقوم ثالث ورأى عليهم سمات العبودية أكثر فسألهم فقالوا: نعبده لأنه إلهنا ونحن عبيده لا لرهبة ولا لرغبة. فقال: أنتم العبيد المخلصون والمتعبدون المحققون. قال القاضي: في الآية دليل على أن المقتول ليس بميت وإلا كان قوله: {ولئن متم أو قتلتم} عطفًا للشيء على نفسه. قلت: لا، ولكنه عطف الأخص على الأعم. ثم أنه سبحانه لما أرشدهم في الآيات المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم وكان من جملة ذلك ان عفا عنهم، زاد في الفضل والإحسان بأن مدح الرسول صلى الله عليه وسلم حين عفا عنهم وترك التغليظ عليهم في انهزامهم. روي أن امرأة عثمان دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم- وكان النبي صلى الله عليه وسلم وعلي يغسلان السلاح- فقالت: ما فعل عثمان؟ أما والله لا تجددونه أمام القوم.
فقال لها علي: ألا إن عثمان فضح الذمار اليوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه. وروي أنه قال حينئذٍ: أعياني أزواج الأخوات أن يتحابوا. ولما دخل عثمان مع صاحبيه ما زاد على أن قال: لقد ذهبتم فيها عريضة. وعنه أنه قال: «إنما أنا لكم مثل الوالد لولده، فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها» وقال صلى الله عليه وسلم: «لا حلم أحب إلى الله من حلم إمام ورفقة، ولا جهل أبغض إلى الله من جهل إمام وخرقة» فلما كان صلى الله عليه وسلم إمام العالمين وجب أن يكون أكثرهم حلمًا وأحسنهم خلقًا لأن الغرض من البعثة- وهو التزام التكاليف- لا يتم إلا إذا مالت قلوب الأمة إليه، وسكنت نفوسهم لديه، ورأوا فيه آثار الشفقة وأمارات النصيحة.
وعن بعض الصحابة أنه قال: لقد أحسن الله إلينا كل الإحسان. كنا مشركين فلو جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الدين جملة وبالقرآن دفعة لثقلت هذه التكاليف علينا فما كنا ندخل في الإسلام، ولكنه دعانا إلى كلمة واحدة، فلما قبلناها وعرفنا حلاوة الإيمان قبلنا ما وراءها، كلمة بعد كلمة على سبيل الرفق إلى أن تم هذا الدين وكملت هذه الشريعة.
واعلم أن من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب، فإنه يعلم أن الحوادث الأرضية كلها مستندة إلى الأسباب الإلهية، فيعلم أن الحذر لا يدفع القدر، فلا جرم إذا فاته مطلوب له لم يغضب، وإذا حصل له مطلوب لم يأنس به لأنه مطلع على الروحانيات التي هي أشرف من هذه الجسمانيات، فلا ينازع أحدًا في هذا العالم في طلب شيء من لذاتها وطيباتها، ولا يغضب على شيء بسبب فوات شيء من مطالبها، فيكون حسن الخلق طيب العشرة مع الخلق. ولما كان صلى الله عليه وسلم أكمل البشر في القوتين النظرية والعملية وقد بعث ليتمم مكارم الأخلاق، وجب أن يكون أكمل الناس خلقًا وذلك من فضل الله ورحمته على الناس كما قال: {فبما رحمة من الله لنت لهم} وما مزيدة للتوكيد.
أما الحكم بزيادتها فللنظر إلى أصل المعنى. وعمل حرف الجر فيما بعدها فكأنه قال: فبرحمة. وأما إفادتها التوكيد فلاستحالة زيادة حرف لا فائدة فيه أصلًا. وجوز بعضهم أن تكون استفهامية للتعجب والتقدير: فبأي رحمة. وإنما كان لينه ورفقه رحمة من الله لأن الدواعي والقصود والإرادات كلها بفعل الله تعالى. فلا رحمة بالحقيقة الإله. ولا رحيم إلا هو، لأن كل رحيم سواه فإنه يستفيد برحمتته عوضًا كالخوف من العقاب، أو الطمع في الثواب، أو الثناء، أو يحمله على ذلك رقة طبع أو حمية أو عصبية إلى غير ذلك من الإعراض.
وأيضا رحمة المخلوق على غيره لن تتم ولن ينتفع بها المرحوم إلا بعد مواتاة سائر الأسباب السماوية من سلامة الأعضاء وغيرها. فلا رحمة إلا بإعانة الله وتوفيقه بربطه على جأش الراحم وضبطه حال المرحوم. ثم بيّن أن الحكمة في لين جانبه ماهي لفقال: {ولو كنت فظًا} سيء الخلق وأصله فظظ كحذر. فظظت يا رجل بالكسر فظاظة {غليظ القلب} قاسية بحيث لا يتأثر عن شيء يوجب الرقة والعطف {لانفضوا من حولك} لتفرقوا عنك حتى لا يبقى حولك أحد والتركيب يدل على التفريق ومنه فض الخاتم. ويقال: لا يفضض الله فاك أي أسنانك. ومنهم من حمل الآية على واقعة أحد فقال: {فبما رحمة من الله لنت لهم} يوم أحد حين عادوا إليك بعد الانهزام {ولو كنت فظًا غليظ القلب} تشافههم بالملامة على ذلك {لانفضوا من حولك} هيبة منك وحياء بسبب ما كان منهم فكان ذلك مما يطمع العدو فيك وفيهم. وهاهنا دقيقة هي أن اللين والرفق إنما يجوز إذا لم يفض إلى إهمال حق من حقوق الله ولهذا أمر بالغلظة في قوله: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} [التحريم: 9] وقال في إقامة حد الزنا: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} [النور: 2] ومثله {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} [المائدة: 54] {أشداء على الكفار رحمخاء بينهم} [الفتح: 29] فيعلم من المدح على اللين في موضع ومن الأمر بالغلظة في موضع آخر أن الفضيلة في الوسط وهو استعمال كل شيء في موضعه، وأن طرفي الإفراط والتفريط مذمومان، ومنه المثل لا تكن حلوًا فتسترط ولا مرًا فتعقى.
واحتجت الأشاعرة بالآية في مسألة القضاء والقدر. وذلك أن حسن خلقه مع الخلق إنما كان بسبب رحمة الله، وهي عند المعتزلة عامة في حق جميع المكلفين. فكل ما فعله مع محمد صلى الله عليه وسلم من الهداية والدعوة والبيان والإرشاد فقد فعل مثل ذلك مع فرعون وهامان وأبي جهل وأبي لهب. فلطف الله ورحمته مشترك بين أصفى الأصفياء وبين أشقى الأشقياء. فلا يكون اختصاص بعضهم بحسن الخلق وكمال الطريقة مستفادًا من رحمة الله، وهذا خلاف نص الآية، فإذان جميع أفعال العباد بقضاء الله وقدره. والمعتزلة يحملون هذا على زيادة الألطاف، واستبعده الأشاعرة لأن كل ما كان ممكنًا من الألطاف فقد فعله في حق كل المكلفين، والذي يستحقه المكلف بناء على طاعته من مزيد الألطاف فذاك بالحقيقة كسب نفسه، ويجب عندهم إيصاله إلأيه فلا يكون برحمة من الله. ثم قال: {فاعف عنهم} فيما يختص بك {واستغفر لهم} فيما يختص بحق الله إتمامًا للشفقة عليهم. قيل: في فاء التعقيب دلالة على أنه أوجب عليه أن يعفو عنهم في الحال كما أنه تعالى قد عفا عنهم كأنه قيل: اعف عنهم فإني قد عفوت عنهم قبل عفوك عنهم، واستغفر لهم فإني قد غفرت لهم قبل أن تستغفر لهم، وهذا من كمال رحمة الله بهذه الأمة.
ثم قال: {وشاورهم في الأمر} والمشاورة مأخوذة من قولهم: شرت العسل أي اجتنيتها واستخرجتها من موضعها. وقيل: من شرت الدابة شورًا عرضتها على البيع، أقبلت بها وأدبرت. والمكان الذي تعرض فيه الدواب يسمى مشوارًا. يقال: إياك والخطب فإنها مشوار كثير العثار. وتركيبه يدل على الإظهار والكشف، فبالمشاورة يظهر خير الأمور وحسن الآراء. وقد ذكر العلماء لأمر قدرهم وزيادة إخلاصهم ومحبتهم، وفي ترك ذلك نوع من الإهانة والفظاظة، وكان سادات العرب إذا لم يشاوروا في الأمر شق ذلك عليهم. ومنها أن علوم الإنسان متناهية فلا يبعد أن يخطر ببال أحد ما لم يخطر بباله ولاسيما فيما يتعلق بأمور الدنيا. ومنها قال الحسن وسفيان بن عبيينة: قد علم الله أنه ما به إلأيهم حاجة ولكنه أراد أن يستن به من بعده، ومنها أنه شاورهم في وقعة أحد فأخطؤا فلو ترك مشاورتهم بعد ذلك لكان مظنة أنه قد بقي في قلبه أثر من تلك الواقعة. ومنها أن يظهر له مقادير عقولهم فينزلهم على قدر منازلهم. ومنها أن تصير النفوس الطاهرة متطابقة على تحصيل أصلح الوجوه فيكون أعون على الظفر بالمقصود ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم» وهذا هو السر في الجماعات والجمعات. ومنها أنه تعالى ما أمر رسوله بالمشاورة قبل تلك الواقعة وأمره بها بعدها مع صدور المعصية عنهم ليعلم أنهم الآن أعظم حالًا مما كانوا، وأن عفوه أعظم من كل ذنب، وأن الاعتماد على فضله وكرمه لا على العمل والطاعة. ثم إن العلماء اتفقوا على أن كل ما نزل به وحي لم يجز للرسول أن يشاور الأمة فيه، لأنه إذا جاء النص بطل الرأي والقياس كما قيل: إذا جاء نهر الله بطل نهر عيسى وفيما وراء ذلك هل تجوز المشاورة في كلها أم لا؟ قال الكلبي وكثير من العلماء: إن الأمر بها مخصوص بالحرب لأن اللام في لفظ {الأمر} ليس للاستغراق لخروج ما نزل فيه الوحي بالاتفاق، فهو إذن لمعهود سابق وليس ذلك إلا ما جرى من أمر الحرب في قصة أحد. وقد أشار الحباب بن المنذر يوم بدر على النبي صلى الله عليه وسلم بالنزول على الماء فقبل منه، وأشار عليه السعدان- سعد بن معاذ وسعد بن عبادة- يوم الخندق بترك مصالحة غطفان على بعض ثمار المدينة لينصرفوا فقبل منهما وخرق الصحيفة.